عيد النصر.. خطوات فرنسية ل”تهدئة الذاكرة” وتمسك جزائري ب”حوار دون خلفيات”

مرت أمس الجمعة، الذكرى ال59 لعيد النصر (19 مارس 1962) الذي توج نضالا عسكريا ودبلوماسيا عسيرا، انتهى باتفاق الجزائريين والفرنسيين على وقف إطلاق النار والتوقيع على اتفاقيات ايفيان، وهي الذكرى التي تتزامن هذا العام مع خطوات فرنسية ل”تهدئة الذاكرة” يقابلها تمسك جزائري ب”حوار دون خلفيات” حول المسألة.
وجاء الاحتفاء بهذه الذكرى في ظل “مكتسبات” جديدة شهدها العمل الدبلوماسي الجاري حول مسألة الذاكرة، وهو العمل الذي تمت مباشرته بتعليمات من رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الذي جعل هذه المسألة في صميم اهتماماته فور اعتلائه سدة الحكم، حيث اعتبر أن “الاهتمام بالذاكرة الوطنية واجب وطني مقدس لا يقبل أي مساومة، وسوف يظل في مقدمة انشغالات الدولة لتحصين الشخصية الوطنية وفي صميم الوفاء لشهداء ثورة نوفمبر المجيدة والمجاهدين الأخيار”، وقال في آخر لقاء له مع وسائل الإعلام الوطنية: “إننا لن تتخلى عن ذاكرتنا أبدا، ولن نتاجر بها”.
ونظير هذا التمسك الجزائري بمسألة الذاكرة، تبلورت إرادة سياسية في فرنسا تسعى إلى القيام بخطوات ملموسة في سياق ما أسماه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ب “تهدئة الذاكرة”، ومن بين هذه الخطوات مباشرة عمل مشترك بين البلدين حول الملفات العالقة يقوده من الجانب الجزائري المدير العام للأرشيف الوطني عبد المجيد شيخي ومن الجانب الفرنسي المؤرخ بنجامين ستورا.
ويحاول الجانب الفرنسي تسريع الخطوات من خلال مبادرات قام بها مؤخرا الرئيس الفرنسي، انطلاقا من مقترحات تضمنها التقرير الذي أعده ستورا بهذا الشأن، ومن بينها تكريم ماكرون يوم 2 مارس الجاري للشهيد علي بومنجل، واعترافه بالمسيرة النضالية للفقيد وأنه قد ألقي عليه القبض في الجزائر سنة 1957 قبل أن يسجن سرا ويتعرض لشتى أنواع التعذيب الذي أفضى إلى استشهاده، كما كرم أسرة الشهيد باستقبال أحفاده في قصر الاليزيه.
وقد سجلت الجزائر “بارتياح” هذا الاعتراف واعتبرت أن هذه “مبادرة طيبة تدخل في إطار النوايا الحسنة والرغبة الحقيقية في تكثيف الحوار بين الجزائر وفرنسا بخصوص الحقبة الاستعمارية في الجزائر، وهذا ما ألح عليه رئيس الجمهورية، في أكثر من مناسبة، حيث شدد على أن ملف الذاكرة “ملف حساس يتطلب حوارا من دون خلفيات حتى يتسنى البحث عن سبل دفع التعاون الجزائري الفرنسي دفعا صحيحا في إطار المصالح المشتركة بين البلدين”.
وتلى ذلك، قرار الرئيس ماكرون يوم 9 مارس الجاري، تسهيل الاطلاع على الأرشيف السري الذي يرجع تاريخه لأزيد من 50 سنة، بما في ذلك الأرشيف المتعلق بحرب التحرير الوطني (1954-1962).
وقبل ذلك قررت السلطات الفرنسية في يوليو الماضي، إعادة رفات 24 شهيدا من شهداء المقاومة الشعبية إلى أرض الوطن استجابة لطلب الجزائر، وتم تكريم ذكراهم باستقبال رسمي وشعبي تاريخي.
وقد اختلفت آراء المؤرخين من البلدين، حول هذه الخطوات الصادرة عن الدولة الفرنسية بين من يرى فيها إشارة “جد ايجابية” و”جد هامة”، ومن يشكك في خلفياتها السياسية وفعاليتها.
وبهذا الصدد، صرح عبد المجيد شيخي أن قرار تسهيل الاطلاع على الأرشيف “قرار جيد والأمر يتعلق بانفتاح إذا أرفق بمتابعة تسمح بتطبيقه بشكل واسع”، فيما قال المؤرخ الفرنسي جيل مانسيرون أن الاطلاع الحر على الأرشيف قد تتم “عرقلته” من خلال الإجراء الذي اتخذه الرئيس الفرنسي والمتعلق بالشروع في “عمل
تشريعي من طرف خبراء جميع الوزارات المعنية”، على اعتبار أن هذا الاجراء يحافظ على “الزامية مسار رفع طابع السرية الذي في غالب الأحيان تعود الكلمة الأخيرة فيه للجيش الفرنسي”.
وبدوره يرى النائب الفرنسي وعضو الحزب الشيوعي الفرنسي، جان بول لوكوك، أن عددا من الفرنسيين والجزائريين ينتظرون اليوم “اعتذارا شاملا ونهائيا” من قبل فرنسا، متأسفا لسياسة “الخطى الصغيرة” التي يتبعها الرئيس ماكرون بخصوص مسألة الذاكرة بالجزائر.
19 مارس 1962..المخاض العسير لميلاد الدولة الجزائرية
إن تاريخ 19 مارس 1962، كان بمثابة نقطة انطلاق عهد جديد يتعلق بتقرير مصير شعب قدم تضحيات جسام من أجل فرض إرادته في الاستقلال أمام محتل لطالما اقتنع بقوته الخارقة، حيث تم إقرار وقف إطلاق النار في هذا التاريخ في أعقاب التوقيع على اتفاقيات إيفيان من طرف ممثلي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وممثلي الحكومة الفرنسية يوم 18 مارس 1962.
ويعترف أغلب المؤرخين بأن اندلاع الكفاح المسلح يوم الفاتح نوفمبر 1954 لم يغلق أبدا الباب أمام المفاوضات من أجل استقلال الجزائر، بما أن الاتصالات الأولى بين جبهة التحرير الوطني الممثل الوحيد للثورة والحكومة الفرنسية، قد انطلقت سريا سنة 1956 لاسيما في اطار المحادثات غير الرسمية بين الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني ووزير الخارجية الفرنسي كريستيان بينو.
وبعد أول اتصال جرى بالقاهرة، التقى الطرفان في يوغسلافيا يوم 26 يوليو 1956 حيث ترأس الوفد الجزائري محمد يزيد واحمد فرانسيس فيما مثل الطرف الفرنسي بيار كومين.
ومنيت أولى المفاوضات بين الوفدين الفرنسي والجزائري بالفشل في يونيو 1960 عندما طلبت الحكومة الفرنسية استسلام جيش التحرير الوطني، وهو ما رفضته الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
وفي يوم 11 ديسمبر 1960 دفعت المظاهرات الشعبية التي شهدتها الجزائر، الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدراج القضية الجزائرية ضمن جدول أعمالها، وفي هذا الظرف وجد الطرف الفرنسي نفسه مضطرا تحت الضغط الدولي الى الجلوس مجددا الى الطاولة للتفاوض حول إنهاء الاستعمار، وفي سنة 1961 استمرت المحادثات الرسمية طيلة سنة كاملة الى غاية الإعلان عن وقف اطلاق النار.
وقاد الوفد الجزائري في مفاوضات ايفيان وزير الشؤون الخارجية في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كريم بلقاسم، فيما قاد الوفد الفرنسي لويس جوكس، علما أن هذه المفاوضات جرت في جولتين بايفيان بعد فاصل لوغرين.
وبعد مفاوضات عسيرة، قادها وفد جزائري مقتنع بعدالة القضية الجزائرية تم الاعتراف بالاستقلال التام للجزائر بكامل وحدة ترابها وفي يوم 19 مارس 1962 شرع في تطبيق وقف إطلاق النار، ليتم بعدها تنظيم استفتاء حول تقرير المصير يوم الفاتح يوليو بالجزائر مما سمح بإعلان استقلال الجزائر يوم 5 يوليو 1962.
وعاشت الجزائر حينذاك، فترة انتقالية في مرحلة سلم كانت بنفس درجة الخطر على قيام الدولة الجزائرية من حالة الحرب، وهو ما نبه إليه رئيس الحكومة المؤقتة بن يوسف بن خدة في خطابه الشهير الذي كان الشعب الجزائري ينتظره بشغف يوم 18 مارس عبر الإذاعة وأعلن فيه عن قرار وقف العمل العمليات العسكرية، حيث قال أن “الفترة الانتقالية تتطلب تيقظا كبيرا..والخطر الكبير لا يزال ماثلا في منظمة العصابات العنصرية الفاشية التي تحاول أن تغمر بلادنا في موجة من الدماء بعد أن يئست من الإبقاء على الجزائر فرنسية”.
وأضاف بذات المناسبة أن “الاستقلال ليس غاية في حد ذاته وإنما هو وسيلة فقط تمكننا من تغيير وضعية شعبنا..إن مهمتنا أن نبني مجتمعا جديدا يكون صورة لوجه الجزائر الفتية، الجديدة، الحرة. الجزائر التي يجب أن يساهم في تشييدها كل مواطن”، معتبرا أن “كل هذه المهمات تتطلب منا مجهودات أكثر من ذي قبل..وتتطلب اليقظة والامتثال لإحباط مناورات الاستفزازيين والديماغوجيين والمفرقين..”.